فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

وثم في قوله تعالى: {ثُمَّ رددناه أسفل سافلين} للتراخي الزماني أو الرتبى والرد إما بمعنى الجعل فينصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر كما في قوله:
فرد شعورهن السود بيضا ** ورد وجوههن البيض سودا

فـ: {أسفل} مفعول ثان له هنا والمعنى ثم جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح وأسفل من كل سافل خلقاً وتركيباً لعدم جريه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات وجوز أن يكون المراد بالرد تغيير الحال فهو متعد لواحد و{أسفل} حال من المفعول أي رددناه حال كونه أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة وهم أصحاب النار وأن يكون الرد بمعناه المعروف و{أسفل} منصوب بنزع الخافض وجعل الأسفل عليه صفة لمكان وأريد بالسافلين الأمكنة السافلة أي رددناه إلى مكان أسفل الأمكنة السافلة وهو جهنم أو الدرك الأسفل من النار ويعكر على هذا جمعها جمع العقلاء وكونه للفاصلة أو التنزيل منزلة العقلاء ليس مما يهتش له ولعل الأولى على ذلك ان يراد إلى أسفل من سفل من أهل الدركات.
وقال عكرمة والضحاك والنخفي وقتادة في رواية المراد بذلك رده إلى الهرم وضعف القوى الظاهرة والباطنة أي ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل حيث نكسناه في خلقه فقوس ظهره بعد اعتداله وابيض شعره بعد سواده وقوته ضعف وشهامته خرف والآية على هذا نظير قوله تعالى: {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} [النحل: 70] وقوله سبحانه: {ومن نعمره ننكسه في الخلق} [يس: 68] وهو باعتبار الجنس فلا يلزم أن يكون كل الإنسان كذلك وفي إعراب أسفل قيل الأوجه السابقة والأوجه منه غير خفي ثم المتبادر من السياق الإشارة إلى حال الكافر يوم القيامة وانه يكون على أقبح صورة وأبشعها بعد ان كان على أحسن صورة وأبدعها لعدم شكره تلك النعمة وعمله بموجبها وإرادة ما ذكر لا يلائمه ومن هنا قيل إنه خلاف الظاهر والظاهر ما لاءم ذلك كما هو المروى عن الحسن ومجاهد وأبي العالية وابن زيد وقتادة أيضاً وقرأ عبد الله {السافلين} مقروناً بال.
وقوله تعالى: {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} على ما تقدم استثناء متصل من ضمير {رددناه} العائد على الإنسان فإنه في معنى الجمع فالمؤمنون لا يردون أسفل سافلين يوم القيامة ولا تقبح صورهم بلا يزدادون بهجة إلى بهجتهم وحسناً إلى حسنهم وقوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ممنون} أي غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم مقرر لما يفيده الاستثناء من خروجهم عن حكم الرد ومبين لكيفية حالهم وعلى الأخير الاستثناء منقطع والموصول مبتدأ وجملة لهم أجر خبره والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والكلام على معنى الاستدراك كأنه قيل لكن الذين آمنوا لهم أجر إلخ وهو لدفع ما يتوهم من أن التساوي في أرذل العمر يقتضي التساوي في غيره فلا يرد أنه كيف يكون متقطعاً والمؤمنون داخلون في المردودين إلى أرذل العمر غير مخالفين لغيرهم في الحكم وقال بعض المحققين الانقطاع لأنه لم يقصد إخراجهم من الحكم وهو مدار الاتصال والانقطاع كما صرح به في الأصول لا الخروج والدخول فلا تغفل وحمل غير واحد هؤلاء المؤمنين على الصالحين من الهرمي كأنه قيل لكن الذين كانوا صالحين من الهرمي لهم ثواب دائم غير منقطع أو غير ممنون به عليهم لصبرهم على ما ابتلوا به من الهرم والشيخوخة المانعين إياهم عن انلهوض لإداء وظائفهم من العبادة أخرج أحمد والبخاري وابن حبان عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً» وفي رواية عنه ثم قرأ صلى الله عليه وسلم فلهم أجر غير ممنون أخرج الطبراني عن شداد بن أوس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله تبارك وتعالى يقول إذا ابتليت عبداً من عبادي مؤمناً فحمدني على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا ويقول الرب عز وجل أني أنا قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك وهو صحيح».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية إذا كبر العبد وضعف عن العمل كتب له أجر ما كان يعمل في شبيبته. ومن الناس من حملهم على قراء القرآن وجعل الاستثناء متصلاً مخرجا لهم عن حكم الرد إلى أرذل العمر بناء على ما أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن الحبر قال من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر وذلك قوله تعالى ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا قال إلا الذين قرؤوا القرآن وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه وفيه أنه لا ينزل تلك المنزلة يعني الهرم كي لا يعلم من بعد علم شيئاً أحد من قراء القرآن ولا يخفى أن تخصيص الذين آمنوا بما خصص به خلاف الظاهر وفي كون أحد من القراء لا يرد إلى أرذل العمر توقف فليتتبع والخطاب في قوله تعالى: {فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين} عند الجمهور للإنسان على طريقة الالتفات لتشديد التوبيخ والتبكيت والفاء لتفريع التوبيخ عن البيان السابق والباء للسببية والمراد بالدين الجزاء بعد البعث أي فما يجعلك كاذباً بسبب الجزاء وإنكاره بعد هذا الدليل والمعنى أن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه على وجه يبهر الأذهان ويضيق عنه نطاق البيان أو هذا مع تحويله من حال إلى حال من أوضح الدلائل على قدرة الله عز وجل على البعث والجزاء فأي شيء يضطرك أيها الإنسان بعد هذا الدليل القاطع إلى أن تكون كاذباً بسبب تكذيبه فإن كل مكذب بالحق فهو كاذب وقال قتادة والأخفش والفراء الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي فأي شيء يكذبك بالجزاء بعد ظهور دليله وهو من باب الإلهاب والتعريض بالمكذبين أي أنه لا يكذبك شيء ما بعد هذا البيان بالجزاء لا كهؤلاء الذين لا يبالون بآيات الله تعالى ولا يرفعون بها رأساً فالاستفهام لنفي التكذيب وإفادة أنه عليه الصلاة والسلام لاستمرار الدلائل وتعاضدها مستمر على ما هو عليه من عدم التكذيب وفيه من اللطف ما ليس في الأول وجوز على هذا الوجه كون الباء بمعنى في وكونها للسببية وتقدير مضاف عليهما والمعنى أن أي شيء ينسبك إلى الكذب في أخبارك بالجزاء أو بسبب إخبارك به بعد هذا الدليل وكونها صلة التكذيب والدين بمعناه والمعنى أي شيء يجعلك مكذباً بدين الإسلام وروى هذا عن مجاهد وقتادة والاستفهام على ما سمعت وجوز كون الدين بمعناه على الوجه الأول أيضاً وبعض من ذهب إلى كون الخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم جعل ما بمعنى من لأن المعنى عليه أظهر وضعف بأنه خلاف المعروف في ما فلا ينبغي ارتكابه مع صحة بقائها على المعروف فيها.
{أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين}
أي أليس الذي فعل ما ذكر بأحكم الحاكمين صنعاً وتدبيراً حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء وحيث استحال عدم كونه سبحانه أحكم الحاكمين تعين الإعادة والجزاء والجملة تقرير لما قبلها وقيل الحكم بمعنى القضاء فهي وعيد للكفار وأنه عز وجل يحكم عليهم بما هم أهله من العذاب وأياً ما كان فالاستفهام على ما قيل تقرير بما بعد النفي ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي وأبو داود وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم {والتين والزيتون} فانتهى إلى قوله تعالى: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} فليقل {بلى وَأَنَاْ على ذلكم مّنَ الشاهدين} وجاء في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أتى على هذه الآية سبحانك فبلى وقد تقدم ما يتعلق بهذا في تفسير سورة {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} فتذكر». اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

أما قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْناهُ أسفل سافلين}- فهذا حكم على الإنسان في أفراده، لا في نوعه، فالإنسان- كفرد- يولد- في أىّ زمن من أزمان الحياة الإنسانية {فِي أحسن تقويم} بما أودع الخالق فيه من عقل مبصر، وفطرة سليمة، ثم إن كثيرا من الناس يطفئون نور عقولهم بأيديهم، ويغتالون فطرتهم بشهواتهم، فيفسدون وجودهم الإنسانىّ ويردّون إلى عالم الحيوان، وقليل منهم يحتفظون بوجودهم الإنسانىّ- عقلا وفطرة- فيكونون شاهدا قائما على أن الإنسان- في كل زمن هو خليفة اللّه في هذه الأرض، وهو سيّد ما عليها من مخلوقات، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ممنون}..فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، هم الإنسان، وهؤلاء هم الإنسان الذي يتناول من ربّه أجره الإنسان كاملا في الدنيا والآخرة، وإنه لأجر يتكافأ مع هذا الخلق العظيم الذي خلق عليه في أحسن تقويم، لا يناله غيره من عالم الأحياء..إنه أجر مقدّر بقدره محسوب بشرف خلقه..أما من نزلوا عن هذا القدر وتخلّوا عن هذا الشرف، فلهم الأجر الذي هم أهله: {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} وهل للأنعام إلا أن تسمّن، وتذبح، ثم تكون وقودا للبطون الجائعة؟.
إن الوجود في تطور، وفى نماء، وهذا بعض ما يشير إليه قوله تعالى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ}..(1: فاطر)..وإن نظرة في تاريخ الإنسانية لترينا أن الإنسان في أول ظهوره على هذا الكوكب الأرضى، كان أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان، يسكن الغابات والكهوف، ويعيش عاريا أو شبه عار، لا يستره إلا ورق الشجر أو نحوه، كما لا تزال شواهد من هذا قائمة في البيئات المتخلّفة، كما في الزنوج، والهنود الحمر..
فهذا الإنسان البدائى كان- ولا يزال- محكوما يغرائزه الحيوانية..
أما هذا الإنسان الذي شهد عهد النبوّات، فهو وليد حياة متطورة، قطع الإنسان مسيرتها في مئات الألوف من السنين، حتى أصبح أهلا لأن يخاطب من السماء، وأن تناط به التكاليف الشرعية، وأن يكون محلّا للحساب، والثواب، والعقاب.
والنظرة التي ينظر بها إلى الإنسان على أن أمسه خير من يومه، ويومه خير من غده، وأنه سائر في طريق يتدلّى به سلّما سلّما من السماء إلى الأرض- هذه النظرة خاطئة من وجوه:
فأولا: أنها نظرة محصورة في الوجود الذاتي للإنسان..فالإنسان في نظرته إلى نفسه يرى أن واقعه الذي يعيش فيه، غير محقّق لرضاه عنه، أيّا كان هذا الوجود، وأيّا كان حظّه مما لم يظفر به غيره..إنه يتطلع دائما إلى ما هو أفضل..
وثانيا: وتأسيسا على هذا، أن عدم رضا الإنسان عن واقعه، وتطلعه إلى المستقبل الذي لا يجد فيه ما يرضيه- هذا التطلع- يشرف به على عالم مجهول، لا يدرى ما سيطلع عليه منه، فلا يجد إلا الماضي الذي يعيش في ذكرياته، وإنه حين ينظر إلى هذا الماضي لا يذكر منه إلّا ما كان موضع مسرّته ورضاه..أما ما يسوءه منه فإنه يختفى من حياته، ولهذا كان الحنين إلى الماضي رغبة منبعثة من صدور كل إنسان.
وثالثا: وتأسيسا على هذا أيضا- كان هذا الإحساس الذي يجده الإنسان دائما من تقديس الماضي وتمجيده، وأنه بقدر ما يبعد الزمن في أغوار الماضي، بقدر تعدّد ما يلبس من أثواب التقديس والتمجيد.
فالحياة بخير، والإنسانية في طريقها من الأرض إلى السماء، وليست في هبوط من السماء إلى الأرض!! قوله تعالى: {فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحاكمين}.
الدّين هنا، هو ما يدين به الإنسان لخالقه الذي خلقه في أحسن تقويم، وهو الاحتفاظ بهذه المنزلة العالية التي له في عالم المخلوقات، بما له من عقل مبصر، ونظرة سليمة.
والمراد بالتكذيب، هو إنكار هذا العقل، وعدم الإصغاء إليه.
والتخلّي عن هذه الفطرة، وتعطيل وظيفتها.
والاستفهام إنكارى، بكشف عن حال أولئك الذين خرجوا عن إنسانيتهم تلك، وتحوّلوا إلى دنيا الحيوان، بلا عقل، ولا قلب!! وقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحاكمين} هو إنكار بعد إنكار، لمن زهدوا فيما أودع الخالق فيهم من آياته، فردّوها، وعرّوا أنفسهم منها، كأنهم لا يرضون بما زيّنهم اللّه به، وكأنهم يرون أن ما صنع اللّه بهم ليس على التمام والكمال، فهم يزهدون فيه، ويطلبون لأنفسهم ما هو أحكم وأكمل!! فالتكذيب بالدين لا يكون من إنسان عاقل رشيد، وإنما يكون ممن سفه نفسه وجهل قدره!. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة: {ثم رددناه أسفل سافلين}
معطوفة على جملة: {خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} فهي في حيّز القَسَم.
وضمير الغائب في قوله: {رددناه} عائد إلى الإنسان فيجري فيه الوجهان المتقدمان من التعريف.
و{ثم} لإفادة التراخي الرُّتْبي كما هو شأنها في عطف الجمل، لأن الرد أسفل سافلين بعد خلقه محوطاً بأحسن تقويم عجيب لما فيه من انقلاب ما جُبل عليه، وتغييرُ الحالة الموجودة أعجب من إيجاد حالة لم تكن، ولأنّ هذه الجملة هي المقصود من الكلام لتحقيق أن الذين حادوا عن الفطرة صاروا أسفل سافلين.
والمعنى: ولقد صيرناه أسفل سافلين، أو جعلناه في أسفل سافلين.
والرد حقيقته إرجاع ما أخذ من شخص أو نُقل من موضع إلى ما كان عنده، ويطلق الرد مجازاً على تصيير الشيء بحالة غير الحالة التي كانت له مجازاً مرسلاً بعلاقة الإطلاق عن التقييد كما هنا.
و{أسفل}: اسم تفضيل، أي أشدَّ سفالة، وأضيف إلى {سافلين}، أي الموصوفين بالسفالة.
فالمراد: أسفل سافلين في الاعتقاد بخالقه بقرينة قوله: {إلا الذين آمنوا} [التين: 6].
وحقيقة السفالة: انخفاض المكان، وتطلق مجازاً شائعاً على الخسة والحقارة في النفس، فالأسفل الأشد سفالة من غيره في نوعه.
والسافلون: هم سفلة الاعتقاد، والإِشراكُ أسفل الاعتقاد فيكون {أسفل سافلين} مفعولاً ثانياً لـ: {رددناه} لأنه أجري مجرى أخوات صار.
والمعنى: أن الإنسان أخذ يغير ما فطر عليه من التقويم وهو الإِيمان بإله واحد وما يقتضيه ذلك من تقواه ومراقبته فصار أسفل سافلين، وهل أسفل ممن يعتقد إلهية الحجارة والحيواننِ الأبكم مِن بقر أو تماسيح أو ثعابين أو من شجر السَّمُر، أو مَن يحسب الزمان إلها ويسميه الدهر، أو من يجحد وجود الصانع وهو يشاهد مصنوعاته ويحس بوجود نفسه قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21].
فإن ملت إلى جانب الأخلاق رأيت الإنسان يبلغ به انحطاطه إلى حضيض التسفل، فمِن مَلَق إذا طمِع، ومن شُحّ إذا شجع، ومن جزع إذا خاف، ومن هلع، فكم من نفوس جُعلت قرابين للآلهة، ومن أطفال موءودة، ومن أزواج مقذوفة في النار مع الأموات من أزواجهن، فهل بعد مثل هذا من تسفل في الأخلاق وأفن الرأي.
وإسناد الرد إلى الله تعالى إسناد مجازي لأنه يكوّن الأسبابَ العالية ونظامَ تفاعلها وتقابلها في الأسباب الفرعية، حتى تصل إلى الأسباب المباشرة على نحو إسناد مدّ وقبض الظل إليه تعالى في قوله: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} إلى قوله: {ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً} [الفرقان: 45، 46] وعلى نحو الإِسناد في قول الناس: بنَى الأمير مدينةَ كذا.
ويجوز أن يكون {أسفل سافلين} ظرفاً، أي مكاناً أسفل مَا يسكنه السافلون، فإضافة {أسفل} إلى {سافلين} من إضافة الظرف إلى الحالِّ فيه، وينتصب {أسفل} بـ: {رددناه} انتصاب الظرف أو على نزع الخافض، أي إلى أسفل سافلين، وذلك هو دار العذاب كقوله: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] فالرد مستعار لمعنى الجعل في مكان يستحقه، وإسناد الرد إلى الله تعالى على هذا الوجه حقيقي.
وأحسب أن قوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين} انتزَع منه مالك رحمه الله ما ذكره عياض في (المدارك) قال: قال ابن أبي أويس: قال مالك: أقبلَ على يوماً ربيعة فقال لي: مَن السَّفلة يا مالك؟
قلت: الذي يأكل بدينه، قال لي: فمن سفلة السفلة؟
قلت: الذي يأكل غيرُه بدينه.
فقال: (زِهْ) وصدَرني (أي ضرب على صدرِي يعني استحساناً).
وأنَّ المشركين كانوا أسفل سافلين لأنهم ضلّلهم كبراؤهم وأيمتهم فسوّلوا لهم عبادة الأصنام لينالوا قيادتهم.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ممنون (6)}
استثناء متصل من عموم الإنسان فلما أخبر عن الإنسان بأنه ردّ أسفل سافلين ثم استثني من عمومه الذين آمنوا بقي غير المؤمنين في أسفل سافلين.
والمعنى: أن الذين آمنوابعد أن ردوا أسفل سافلين أيام الإِشراك صاروا بالإِيمان إلى الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها فراجعوا أصلهم إلى أحسن تقويم.
وعُطف {وعملوا الصالحات} لأن عمل الصالحات من أحسن التقويم بعد مجيء الشريعة لأنها تزيد الفطرة رسوخاً وينسحب الإِيمان على الأخلاق فيردها إلى فضلها ثم يهديها إلى زيادة الفضائل من أحاسنها، وفي الحديث: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
فكان عطف {وعملوا الصالحات} للثناء على المؤمنين بأن إيمانهم باعث لهم على العمل الصالح وذلك حال المؤمنين حين نزول السورة فهذا العطف عطف صفة كاشفة.
وليس لانقطاع الاستثناء هنا احتمال لأن وجود الفاء في قوله: {فلهم أجر غير ممنون} يأباه كل الإِبايَة.
وفُرع على معنى الاستثناء وهو أنهم ليسوا ممن يرد أسفل سافلين الإِخبارُ بأن لهم أجراً عظيماً لأن الاستثناء أفاد أنهم ليسوا بأسفل سافلين فأريد زيادة البيان لفضلهم وما أعد لهم.
وتنوين {أجر} للتعظيم.
والممنون: الذي يُمنّ على المأجُور به، أي لهم أجر لا يشوبه كدر، ولا كدر أن يمنّ على الذي يعطاه بقول: هذا أجرك، أو هذا عطاؤك، فالممنون مَفْعول مَنّ عليه، ويجوز أن يكون مفعولاً من مَنَّ الحبلَ، إذا قطعه فهو منين، أي مقطوع أو موشك على التقطع.
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين (7)}
تفريع على جميع ما ذكر من تقويم خلق الإنسان ثم رده أسفل سافلين، لأن ما بعد الفاء من الكلام مسبّب عن البيان الذي قبل الفاء، أي فقد بان لك أن غير الذين آمنوا هم الذين رُدُّوا إلى أسفل سافلين، فمن يكذب منهم بالدين الحق بعد هذا البيان.
و(مَا) يَجوز أن تكون استفهامية، والاستفهام توبيخي، والخطاب للإِنسان المذكور في قوله: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4] فإنه بعد أن استثني منه الذين آمنوا بقي الإنسان المكذب.
وضمير الخطاب التفات، ومقتضى الظاهر أن يقال: فما يكذبه.
ونكتة الالتفات هنا أنه أصرح في مواجهة الإنسان المكذب بالتوبيخ.
ومعنى {يكذبك} يَجعلك مُكذباً، أي لا عذر لك في تكذيبك بالدين.
ومتعلق التكذيب: إمَّا محذوف لظهوره، أي يجعلك مكذّباً بالرسول صلى الله عليه وسلم وأمّا المجرور بالباء، أي يجعلك مكذباً بدين الإِسلام، أو مكذباً بالجزاء إن حمل الدين على معنى الجزاء وجملة: {أليس الله بأحكم الحاكمين} مستأنفة للتهديد والوعيد.
و{الدين} يجوز أن يكون بمعنى الملة والشريعة، كقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] وقوله: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً} [آل عمران: 85].
وعليه تكون الباء للسببية، أي فمن يكذبك بعد هذا بسبب ما جئتَ به من الدين فالله يحكم فيه.
ومعنى {يكذبك}: ينسبك للكذب بسبب ما جئت به من الدين أو ما أنذرت به من الجزاء، وأسلوب هذا التركيب مؤذن بأنهم لم يكونوا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكذب قبل أن يجيئهم بهذا الدين.
ويجوز أن يكون (الدين) بمعنى الجزاء في الآخرة كقوله: {مالك يوم الدين} [الفاتحة: 4] وقوله: {يصلونها يوم الدين} [الانفطار: 15] وتكون الباء صلة (يكذب) كقوله: {وكذب به قومك وهو الحق} [الأنعام: 66] وقوله: {قل إني على بينة من ربي وكذبتم به} [الأنعام: 57].
ويجوز أن تكون (ما) موصولة وما صدْقُها المكذب، فهي بمعنى (مَن)، وهي في محل مبتدإ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والضمير المستتر في {يكذبك} عائد إلى (مَا) وهو الرابط للصلة بالموصول، والباء للسببية، أي ينسبك إلى الكذب بسبب ما جئت به من الإِسلام أو من إثبات البعث والجزاء.
وحذف ما أضيف إليه {بعدُ} فبنيت بعدُ على الضم والتقدير: بعدَ تبيُّن الحق أو بعد تبيُّن ما ارتضاه لنفسه من أسفل سافلين.
وجملة: {أليس الله بأحكم الحاكمين} يجوز أن تكون خبراً عن (ما) والرابط محذوف تقديره: بأحكم الحاكمين فيه.
ويجوز أن تكون الجملة دليلاً على الخبر المخبر به عن (مَا) الموصولة وحُذف إيجازاً اكتفاء بذكر ما هو كالعلة له فالتقدير فالذي يكذبك بالدين يتولى الله الانتصاف منه أليس الله بأحكم الحاكمين.
والاستفهام تقريري.
و(أحكم) يجوز أن يكون مأخوداً من الحكم، أي أقضى القضاة، ومعنى التفضيل أن حكمه أسد وأنفذ.
ويجوز أن يكون مشتقاً من الحكمة.
والمعنى: أنه أقوى الحاكمين حِكمةً في قضائه بحيث لا يخالط حكمه تفريط في شيء من المصلحة ونَوْطِ الخبر بذي وصف يؤذن بمراعاة خصائص المعنى المشتقِّ منه الوصفُ فلما أخبر عن الله بأنه أفضل الذين يحكمون، عُلم أن الله يفوق قضاؤه كل قضاء في خصائص القضاء وكمالاته، وهي: إصابة الحق، وقطع دابر الباطل، وإلزام كل من يقضي عليه بالامتثال لقضائه والدخول تحت حكمه.
روى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم {والتين والزيتون} [التين: 1] فانتهى إلى قوله: {أليس الله بأحكم الحاكمين} فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين». اهـ.